ربى عياش تكتب : الأزمات والخرافة في المجتمعات العربية

في ظل الأزمات القاتلة التي تعصف بالمجتمعات خاصة العربية، من حروب مدمرة وصراعات طاحنة، إلى تمدد جبهات المعارك وتصاعد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية، تبدو هذه المجتمعات عالقة في دوامة من التحديات التي تزيد أوضاعها تعقيدًا.
ومع تردي الخدمات الصحية والتعليمية والانهيارات السياسية والأمنية، باتت الشعوب تبحث عن منفذ، عن أمل، حتى وإن كان وهميًا.
هنا يظهر الميل المتزايد لتصديق الخرافات والأساطير، كنوع من الهروب الجماعي من مواجهة الواقع. الأبراج، التبصير، التنجيم، وحتى الادعاءات الزائفة حول القوى الغيبية، أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياة الكثيرين. يبدو أن البحث عن رؤية للمستقبل من خلال هذه الوسائل قد تفوق على السعي لفهم الواقع، رغم أن ما تقدمه هذه الوسائل ليس إلا سرابًا يزيد الضبابية.
لكن هذا الميل لا يظهر من فراغ. المجتمعات التي عانت لعقود من تهميش الفكر النقدي والتحليل العلمي في مناهجها التعليمية، باتت غير قادرة على بناء أدوات فكرية متوازنة تساعدها على رؤية المشهد بواقعية. هذا الغياب للتفكير النقدي فتح المجال أمام موجة جديدة من صانعي المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، الذين يعززون هذه الطريقة السطحية في التفكير. هؤلاء يقدمون أنفسهم كخبراء في "الماورائيات" أو "العلوم الخفية"، ويخاطبون مخاوف الناس ورغبتهم في الطمأنينة عبر محتوى مليء بالإثارة والدراما، لكنه خالٍ تمامًا من المصداقية.
في الماضي، كان المسلمون روادًا في العلوم الفلكية، إذ يُنسب إلى ابن خلدون قوله: "حين كان المسلمون يحسبون موعد ومكان الكسوف بكل دقة، كان الأوروبيون أثناء الكسوف يصرخون في الشوارع ويختبئون في منازلهم اعتقادًا منهم أن غولًا قد ابتلع الشمس".
هذا التباين التاريخي يعكس الفرق بين المعرفة العلمية والمعتقدات الخرافية. لكن المفارقة المؤلمة اليوم، أن بعض المجتمعات العربية التي كانت رائدة في هذا المجال كما يُقال أصبحت تتبنى معتقدات خرافية حول ظواهر مثل الكسوف والخسوف، معتبرةً إياها نذير شؤم أو أحداثًا تُسبب الأذى. بدلاً من اتباع النهج العلمي الذي أسسه أجدادهم، يلجأ الكثيرون إلى التنجيم والصلوات والدعاء لتفسير هذه الظواهر.
الإشكالية هنا ليست فقط في لجوء الناس لهذه الخرافات، بل في تأثير هذه الظاهرة على الوعي الجمعي. عندما يصبح الاعتماد على التنجيم والأساطير وسيلة لفهم الحياة، يغيب المنطق، ويُغتال العلم، وتُفقد القدرة على مواجهة التحديات بوعي حقيقي. وهنا، يصبح من السهل استغلال هذه الشعوب، لأنها غارقة في البحث عن أجوبة خاطئة بدلًا من العمل على بناء حلول واقعية.
التعلق بالخرافة ليس ضعفًا في الوعي الفردي فحسب، بل نتيجة لسنوات طويلة من تدمير مؤسسات التعليم والثقافة والإعلام. فالنظام التعليمي لا يعزز التفكير النقدي، والإعلام يغذي الخوف بدلًا من الأمل، وصانعو المحتوى يستغلون هذه الثغرات لتحقيق الشهرة والربح، دون اعتبار للضرر الذي يحدثونه في العقول.
لكن الطريق الذي يسلكونه مدمّر لخلايا العقل والبنية الفكرية للمجتمعات. ففي ظل اليمن الذي يعاني من الكوليرا، وليبيا المنهوبة ثرواتها والمقسمة بين حكومتين تتصارعان على الغنائم، والسودان المغتال، وغزة المُبادة، والضفة المنكوبة، وسوريا المشرذمة لألف قطعة، ولبنان المنهار، والعراق الذي يقف على شفا الجحيم، ومصر والأردن القلقتين اللتين تعانيان من تحديات اقتصادية وأمنية حقيقية.. والأمثلة تتعاظم.. هل تظن أنه في ظل هذه المجتمعات والدول يمكن إنقاذها من نكباتها ونكساتها وهزائمها وهياكلها الهشة بالخرافات والتنجيم والأسباب غير المنطقية؟
لذا.. هل يمكن لهذه المجتمعات أن تنهض؟ الإجابة تكمن في تطوير الوعي، في بناء أدوات نقدية تسمح للفرد برؤية الواقع كما هو، بعيدًا عن وهم الخرافات.
هناك حاجة للعمل على بناء بنية مادية بالتوازي مع عقلية قيمية.
هذه المجتمعات بحاجة إلى شجاعة فكرية.. وهذه الشجاعة لا تأتي من الأبراج والتبصير والسباحة في فلك الخرافات، بل من مواجهة الحقائق والعمل على تغييرها.
المستقبل لا يُبنى بالسحر، بل بالعلم. والخرافة قد تمنح راحة مؤقتة، وعبارة عن انعكاس لحاجة دفينة للبحث عن حلول سحرية، لكنها لن تكون أبدًا مفتاحًا للنجاة.
الهروب من الحقيقة قد يكون مريحًا، وقد يعتبر طريقا أسهل، لكنه لن يغير الواقع. مواجهة الحقيقة بشجاعة متمثلة في المنطق والنقد والتحليل والتفكير هي الخطوة الأولى نحو التغيير.
لذا عندما تتحرر العقول من أوهام الماضي، ومن الخرافات، والتحليلات العشوائية والمعرفة المشوشة المشوهة، حينها فقط يمكن أن تبدأ هذه المجتمعات في كتابة قصتها بطريقة مختلفة.