ربى عياش تكتب : التحولات العالمية القادمة.. هل نحن مستعدون لها

العالم مقبل على مرحلة جديدة، حيث تتهدم فيها التوازنات القديمة، وتُبنى تحالفات جديدة. ولكن للأسف هذه المرحلة لا تبشّر بالخير للناس. النظام العالمي لا يعيد تشكيل نفسه لصالح الشعوب، بل لصالح من يملك القوة الحقيقية وهذا ما كنت أشير إليه دائما في مقالاتي السابقة.
المنطقة ستشهد انهيارات وتغيرات كبرى، أكثر مما حدث؟ نعم، أكثر.
التحالفات في العالم تتغير، لكن بطريقة تزيد من تعقيد المشهد ولا تبسطه. دونالد ترامب، وفلاديمير بوتين، والصين، وأوروبا، كلهم اليوم في حالة إعادة تموضع، لكن الضحية الأكبر ستكون الدول التي لا تملك أوراق لعب حقيقية. ومن فاته القطار، ربما تأخر أكثر مما ينبغي للحاق به. ربما تأخر الوقت كثيرا.. فما تعيشه المنطقة بشكل خاص ليس مجرد صفقة قرن، بل هو قرن يُعاد فيه تشكيل الشرق الأوسط بالكامل، والتاريخ يُعيد نفسه بشكل هزلي، كأنه يسخر منا جميعا. النظام العالمي منذ عقود لا يُعاد تشكيله ليكون أكثر عدالة أو استقرارا، بل ليعزز سطوة من يملك القوة الحقيقية، سواء عسكريا، اقتصاديا، أو حتى إعلاميا.
والسؤال، كيف تُدار التحولات الكبرى؟ بالفوضى المنظمة. أبدع أركان النظام العالمي في فن صناعة الفوضى، فالتحولات التي وقعت ليست مجرد تغييرات طبيعية أو تطورات تلقائية، بل فوضى منظمة ومدروسة، حيث يتم توظيف الأزمات والحروب والصراعات كأدوات لإعادة ترتيب القوى. والشرق الأوسط في قلب التغيرات، حيث تتشكل خارطة جديدة مبنية على تحالفات غير متوقعة وصفقات تُعقد في الكواليس. لذا، التاريخ لا يختفي بل يُعيد إنتاج نفسه.
لكن، لا يمكن فهم التحولات الحالية دون النظر إلى التحالفات الجديدة، من أوروبا التي تعاني من الضعف والتفكك الداخلي، ما يجعلها أقل قدرة على مواجهة التحديات الجديدة، ويفتح الباب أمام قوى أخرى لفرض نفوذها. أوروبا التي تصارع بين فكي الدب الروسي والولايات المتحدة للحفاظ على سيادتها وقوتها وثقافتها وصوتها وحضورها.
الصين وأميركا في صراع إعادة تموضع منذ سنوات، حيث المواجهة بينهما ليست تقليدية، بل تعتمد على السيطرة الاقتصادية والتكنولوجية بدل الحروب المباشرة. الصين لا تزال في موقف الصعود، والصراع يزداد حدة بينها وبين الولايات المتحدة.
روسيا اليوم، ربما تبتعد عن عدائها التقليدي للولايات المتحدة، وباتت تسعى إلى لعب دور جديد في النظام العالمي، أحيانا كحليف، مع التقارب البوتيني – الترامبي، وأحيانا كخصم، كما كان جليا مع الديمقراطيين، وفقا لما يخدم مصالحها. بوتين ربما من لحظة تنصيب ترامب لم يعد العدو التقليدي لأميركا، بل يتحول إلى شريك انتهازي جديد. فاللعبة بين الولايات المتحدة وروسيا. فقد يرى بوتين اليوم أن واشنطن يمكن أن تكون شريكا تكتيكيا في بعض الملفات، خصوصا إذا كان الثمن هو إضعاف أوروبا أكثر، وكسب امتيازات جديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا. هذا التحول ليس لصالح أيّ أحد، لأن روسيا مثل أميركا لا تهتم سوى بمصالحها.
الولايات المتحدة باتت تستخدم نهجا أكثر ميكيافيلية في إدارة سياستها الخارجية، دون أي التزامات أخلاقية أو دبلوماسية. ترامب ينتهج أسلوبا بلطجيا في التعامل مع الملفات والدول بدلا من الدبلوماسية. رجل أعمال يتعامل بوقاحة، بلا إنسانية، بلا أخلاقيات.. يتعامل بفوقية مع الشعوب الأخرى. ليس فقط مع العرب، يُذكّرني بأسلافه الذين كانوا يعرضون أفرادا من الشعوب الأخرى في حدائق إنسان كأنهم حيوانات نادرة. تصريحاته بشأن كندا، غرينلاند، المكسيك، المهاجرين، الصين.. مرفوضة تماما بعُرف الأخلاقيات والقوانين الدولية.
وأما إسرائيل، فتعزز وجودها الإقليمي بدعم غربي مطلق، مقابل غياب أيّ مشروع قومي وطني إقليمي سياسي عسكري اقتصادي ثقافي قوي مضاد
أقل قدرة على مواجهة التحديات الجديدة
لكن، من وجهة نظري، ما تفعله إسرائيل قد يخدم مصلحة بنيامين نتنياهو الشخصية، أو ربما يعزز وجودها حاليا، أو ربما يخدمها في الوقت الآني، لكن المستقبل غير مضمون، وستكون له تداعيات سيئة جدا. فرغم كل ما فعلته إسرائيل خلال العام الماضي، لا تزال تواجه تحديات داخلية عميقة، سياسيا وعسكريا، وأزمة الهوية في تصاعد. وهي بدورها تستغل إلى أقصى حد الدعم الغربي المطلق لها ما يجعلها مؤقتا في موقف القوة.
لذا، هل هذا سيؤثر على أهالي المنطقة بشكل أكبر؟ نعم. هل الانهيارات القادمة مستمرة؟ نعم. أكثر مما حدث؟ نعم، أكثر.
البعض يظن أن ما شهدته المنطقة في العقود الأخيرة من حروب وأزمات كان القاع، لكن الحقيقة أن القادم قد يكون أكثر تعقيدا وخطورة. ربما كان الجحيم أشبه بنفق لولبي، في كل مرحلة يزداد عمقا وظلاما وضبابية في المشهد. لم يعد الإنسان يدرك الأحلام، بالكاد هو قادر على التمسك اليوم بقوت يومه، وفي اللحظة. الإنسان ما عاد قادرا على رؤية المستقبل، أو التخطيط لغد أفضل. وكأنه علق في المصيدة. من الواضح، أنه لا أمل كبيرا في الغد، وكأن لا شمس عادت تشرق خاصة على الشرق الأوسط، في البلاد المنسية المنهوبة المنكل ببنيتها المادية والثقافية منذ عقود طويلة.
تركيبة هذه الدول هشّة، ومخترقة، ولا أساسات صلبة لها، لذلك هي غير قادرة على التكيف مع التغيرات، مما يجعلها في مهب الريح. الحركات السياسية التقليدية التي سيطرت على مقاليد بعض هذه الدول انهارت وفقدت تأثيرها، وظهر لاعبون جدد أكثر راديكالية أو براغماتية. لكن حتى في براغماتيتها ما زالت غير مقبولة في المشهد العالمي، وما زالت تُعامل كدول وشعوب متأخرة وأقل في ترتيبها العالمي.
الشعوب باتت في موقف أضعف، لأنها فقدت أدوات الضغط. الشعوب من الواضح منهكة، وتأخذ موقف المتفرج على القرارات المصيرية التي تُتخذ دون استشارتها. لذا الضحية الحقيقية هي الدول التي لا تملك أوراق لعب. في هذا النظام العالمي الجديد، الدول التي لا تملك إستراتيجيات واضحة أو أوراق تفاوض قوية ستكون هي الضحية الأكبر. من لا يملك اقتصادا قويا، سيبقى تابعا. من لا يملك جيشا مستقلا، سيجد نفسه جزءا من صراعات أكبر منه. من لا يملك إعلاما مؤثرا، ستتم إعادة تشكيل صورته من قبل الآخرين.
م اليوم في حالة إعادة تموضع
الصراعات الحالية في الشرق الأوسط هي تمهيد لمرحلة جديدة من إعادة رسم الحدود والمصالح الدولية. المسألة لا تقتصر على إسرائيل وفلسطين، بل إعادة تشكيل كل المنطقة وفقا لمصالح القوى الكبرى، والعرب كالعادة في موقع المتفرج أو الضحية. اليوم نحن نتحدث عن تصفية شاملة للقضية الفلسطينية، عن إعادة تجسيد لنكسة 67 أمام عدسات الكاميرات والجميع لا يأبه. اليوم نتحدث عن خرق لسيادة دول مثل لبنان وسوريا، وتفجير قرى كاملة، هدم منازل، استباحة مناطق شاسعة من هذه الدول تتعدى حدود الجولان، والجميع (عامل نفسه ميت). اليوم نتحدث عن تهجير الفلسطينيين وتغيرات ديموغرافية، وإمكانية إحداث تحديات وتغيرات اجتماعية، أمنية واقتصادية في الأردن ومصر بسبب تداعيات هذه الخطوة.
في ظل هذه التحولات العنيفة، من الضروري أن نفهم أن ما يحدث اليوم ليس مجرد أحداث متفرقة، بل هو رسم لمرحلة جديدة بالكامل. من يملك القوة هو من يملك الريشة لرسم الخطط، والواقع، ومن لا يملكها يكتفي بالمشاهدة. الأنظمة العالمية لم تعد متصارعة كما يعتقد البعض، بل هناك توافق خفيّ على الخراب. استثمار طويل الأمد بالدمار. القوى العظمى اليوم ليست في صراع أيديولوجي حقيقي كما كان الحال في الحرب الباردة، بل ما يحدث هو إعادة توزيع النفوذ والموارد. وهذا ما نشهده في ملفات أوكرانيا وسوريا ولبنان وأفريقيا.
كل طرف يرى أن الفوضى في العالم تصب في مصلحته، لأنها تتيح له مزيدا من السيطرة والتوسع. الفوضى المتعمدة باتت أداة سياسية واقتصادية ناجحة، وليست مجرد نتيجة عشوائية.