هل سنخسر التعليم التقليدي؟ باربرا كايسر

بلكي الإخباري في ظل دعوة خبراء التعليم الحكوميين إلى تعليم الأطفال حديثي المشي القراءة والكتابة، ومع ازدياد التطبيقات البرمجية للأطفال، هل سنخسر التعليم القائم على استخدام المواد يدويًّا؟ يكافح العلماء المختصون بالأطفال والباحثون اليافعون التوّاقون إلى إدراك العالَم في الهواء الطلق، ومن خلال اللعب الحُرّ .. حرفيًّا.
هذا ما يناقشه باربرا كايسر في مقاله التالي:
باربرا كايسر*
التعلم من خلال الممارسة
ساحات ألعاب مستنسَخة من بعضها البعض، وفصول دراسية ضيقة، وأفنية مدرسية تشبه «مواقف السيارات». هذه هي البيئة التي يُنتظر من الأطفال في الدول الصناعية أن يلعبوا ويتعلموا فيها، حتى إنّ حدائق الحيوان المحاطة بالسياج تبدو أكثر ثراءً من ذلك. وقد ظهرت دراسات تشير إلى أن التصميمات السيئة تعوق التعلم لدى صغار الأطفال؛ فهي تفسد التعليم، كما لو كانت تدريبات عسكرية. وفي مقابل ذلك.. نجد أن البيئة المليئة بنقيق الضفادع، التي تعلوها السماء المرصعة بالنجوم ـ التي كانت فيما سبق أدوات العلم ـ شيء لا يعرفه الكثير من الأطفال. ونعرض هنا النقاط التي حددها اثنان من أهم الممارسين في مجال تطوير بيئات التعلم للصغار، وأكدوا على ضرورة توفيرها.
إن الصلة ما بين الطفل الصغير والعالم المادي هي بمثابة مساحة مشحونة، تتلاقى فيها الإمكانات المشتعلة بكل ما هو جديد. وَصَفَتْ أليسون جوبْنِك ـ عالمة الأعصاب التطورية ـ وعي الأطفال الصغار بالعالم المحيط بأنّ تركيز الاستيعاب به 360 درجة؛ فعقول الأطفال الرضع تنمو بسرعة شديدة، حيث تكوِّن 700 وصلة عصبية جديدة في الثانية الواحدة. ومع بلوغ الطفل 3 سنوات، يكون لديه 1,000 تريليون تَشابُك عصبي، وهو ما يصل إلى 4 أضعاف التشابكات العصبية في مخ الشخص البالغ، ولكن هذه التشابكات تضمحل فيما بعد.
وبينما ينمو الجهاز العصبي، يستكشف الرضيع، وكذلك الطفل الذي في مرحلة المشي العالَم المحيط كله، باستخدام يديه، وقدميه، وجسده، بالإضافة إلى عينيه، وأذنيه، وأنفه، وفمه. ومن ثم، فالتعلم الحسي الحركي القائم على استخدام المواد اليدوية كان هو الأساس الذي بُني عليه تطوُّرنا كجنس بشري، فهو يشكِّل المخ البشري: فلقد ذكر الرياضي والبيولوجي جيكوب بروناوسكي في كتابه «تطور الإنسان» The Ascent of Man (دار نشر ليتل، براون)، الذي صدر في عام 1973 أنّ «اليد هي الأداة القاطعة التي يستخدمها المخ»، وأضافت جوبْنِك قائلة إن ما يرضي الشغف التجريبي لتجارب العلماء المختصين بالأطفال هو الناس، وبعض الأشياء الأخرى، مثل الرمال، والماء، ونبات بَقْلِي، وأفراد عائلة اجتماعيين.
يتعلم الأطفال الصغار كيف يعمل العالَم المادي، والناس، فهم يبذلون مجهودًا تفاعليًّا للتعرف عليهم، والتكيف معهم، وذلك يناهض الفكرة التي تقول إن إخضاع الأطفال تحت سن ست سنوات لدورات أكاديمية مكثفة أمر ضروري؛ حتى يصبحوا علماء للبيولوجيا التركيبية، ومهندسين للطاقة الشمسية في المستقبل، لكن ذلك يختزل التعلم في الاستماع، والقراءة، والكلام، والكتابة، حسب قول العالِم المعرفي جاي كلاكستون.
غالبًا ما ينظر الناس إلى الإعلام الإلكتروني على أنه وسيلة تصحيحية لهذا الاختزال، ولكن مع ارتياد الكثير من الرضع والأطفال في سن المشي العالَم الافتراضي الآن، حتى إن هناك حضانات تتباهى بعرض سبورة بيضاء رقمية عملاقة في فصولها، نشأت اعتراضات شديدة على استخدام الأدوات الإلكترونية في التعليم المبكر. وأيًّا كان الحكم النهائي، من الواضح أن التجربة الافتراضية وحدها فشلت في استغراق الطفل ككل: فالوقت الذي يقضيه الطفل أمام الشاشات يحدد قدراته فيما يلقِّبه كلاكستون بتعليم «العين ـ المخ ـ الأصابع»، كما أن ذلك من الممكن أن يقلص الوقت الذي كان سيُخصَّص «للتفاعل وجهًا لوجه»، والتنشئة الاجتماعية، وتعلُّم اللغة، وهي أشياء غاية في الأهمية للنمو المبكر للطفل. (جدير بالذكر أن هناك خبراء فنيين تكنوقراطيين كبار، مثل مؤسس «تويتر» إيفان ويليامز، يحددون استخدام أطفالهم للأجهزة الإلكترونية تحديدًا صارمًا).
في الوقت نفسه، نجد أن البدائل التي يقدمها «التقليديون» للاختزال لها تاريخ طويل، فالاكتشافات الحديثة حول أهمية التواصل المادي والاجتماعي للأطفال الصغار تضاهي ممارسات المبدعين والمصلحين التربويين من بدايات القرن العشرين، وما بعدها. فماريا مونتيسوري (1870-1952)، وهي واحدة من أولى الطبيبات في إيطاليا ـ التي لاحظت أن الإدراك مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحركة، وأن التعلم مرتبط بالاستقلالية ـ أكدت على أهمية التعليم القائم على اللعب، واستخدام المواد اليدوية، حتى إن فصول ماريا مونتيسوري الدراسية كانت تناظر مَعامل الجامعة، حيث يباشر الأطفال أعمالهم على الوتيرة الخاصة بهم مع «الزملاء» الذين يختارونهم، باستخدام مواد مصمَّمة للتجريب متعدد الأوجه. فعلى سبيل المثال.. يمكن لطفل عمره ثلاث سنوات أن يمسك أسطوانات خشبية بارزة ذات أبعاد مختلفة، ويتعلم أثناء هذه العملية «مسكة الكمّاشة»، التي يحتاجها للتحكم في الأدوات الصغيرة، بالإضافة إلى مهارات أخرى، تشمل التفكير، والمقارنة، ومبادئ الحساب.
هناك فلسفة أخرى شبيهة تكتسح الأنظمة الأخرى المقدَّمة على أنها تنمِّي الاستخدام المبكر للغة، وتقوي التفكير والمراقبة الذاتية، حيث تركز دولة فنلندا على إدماج الأطفال حتى سن 7 سنوات في التعليم المادي والاجتماعي القائم على اللعب، فأطفالها البالغون 15 عامًا مصنَّفون كأفضل أطفال أوروبا في العلوم والقراءة، وذلك وفقًا لإحصاءات أجراها برنامج منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، التابع لبرنامج التقييم الدولي للطلبة.
هناك اتجاه أكثر راديكالية، وهو مدرسة الغابة، وهي متأصلة في نموذج «حضانة الهواء الطلق»، وهو اتجاه المُصلِحة التربوية مارجريت ماكميلان (1860-1931) وآخرين. وقد شق هذا الاتجاه طريقه من بريطانيا إلى الولايات المتحدة والدول الإسكندنافية، وهذا فيما بين العقد الثاني والعقد الأخير من القرن الماضي، حيث يمكن أن يكون «الفصل الدراسي» بمثابة مكان مفتوح في الغابة، وتكون «الدروس» فيه عن إشعال النار، أو التعرف على الحشرات، والمنهج المتَّبَع هو (المجازفة تحت الإشراف والمراقبة عن كثب).
أَلْهَم أسلوب التعليم في «الهواء الطلق» بيولوجيون، مثل تشارلز داروين، وإي ويلسون، حيث يحتوي هذا المنهج على مجموعة من المميزات التي تفيد المتعلم بعد ذلك عند العمل في قاعات الدراسة. فقد قامت دراسة أجرتها مدارس الغابات في المملكة المتحدة ـ بتوجيه من مؤسسة بحوث الغابة، ومؤسسة العلوم الاقتصادية الجديدة، وبتكليف من لجنة الغابات ـ باكتشاف أن هذا الأسلوب يؤدي إلى تحسُّن الثقة لدى الأطفال، بالإضافة إلى تحسُّن التركيز، والتحكم الحركي الدقيق، والعمل في فريق. كما أن مدارس الغابات تقدم دلائل ملموسة على ظواهر مادية، مثل دورات الحياة، والسلاسل الغذائية، وسلوكيات المواد (مثل سبب اسوداد الخشب في النار).
يقول عالِم البيئة الاجتماعية ستيفن كيليرت إن الطبيعة بيئة لا نظير لها في التعليم، فالمرج الأخضر، أو شاطئ البحر، يشكل خبرة ثرية، تستغرق الطفل كليًّا، وتحفز قدراته على المستوى المادي، والاجتماعي، والمعرفي، والوجداني، فهو يلتقي بمجموعة أحداث معقدة وغير متوقعة من الأمطار، والرياح، وطيران الطيور، وسحق الطمي، وسقوط أوراق الأشجار، فالطبيعة تشعل الفضول، حتى وهي تقدِّم مساحة للعب الحر، فهي تأتي للطفل بالتفاصيل القريبة، كما تأتيه بالآفاق البعيدة.
ومع انحسار البرية، وزحف الطرق الأسفلتية عليها، أصبحت الأماكن الآمنة للعب والتعليم في الهواء الطلق أكثر أهمية، كملاجئ للأطفال، وساحات لاختبارهم، حيث إن اللعب «الجيد» الذي ينمي حواس الطفل وعقله، ويحسِّن من قدراته الاجتماعية والجسدية، ومهاراته الحركية البسيطة والمعقدة، يتطلب مساحات مصمَّمة لملاءمة احتياجات الطفل وسلوكه، وهذا وفقًا لما سيذكره لاحقًا في هذا المقال مصمِّم مساحات اللعب المعروف، جونتر بيلتزيج.
وبينما يصارع واضعو النظريات التعليمية، والمدرسون، والحكومات، والآباء حول تعليم الأطفال تحت سن ثماني سنوات القراءة، والكتابة، والحساب، واختبارهم، ننسى أحيانًا أن الطبيعة تربي الأطفال. فقد ارتقينا كجنس بشري في هذا العالم ونحن نلعب ونجرب، من خلال شعلة متوهجة من الفضول، وهي سمة العلماء في كل عصر. ولهذه الحقائق الأولية المادية القدرة على أن تعلمنا بطريقة أو بأخرى.
*محررة قسم كتب وفنون بدورية Nature.